الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردنّ فهي أدنى إلى أرض الروم.فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سُرّ الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب.وقد مضى الكلام في فواتح السور.وقرأ أبو سعيد الخدريّ وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قُرّة {غَلَبَت الرُّومُ} بفتح الغين واللام.وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسرّ بذلك المسلمون، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضًا في بضع سنين؛ ذكر هذا التأويل أبو حاتم.قال أبو جعفر النحاس: قراءة أكثر الناس {غُلبت الروم} بضم الغين وكسر اللام.وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأا {غَلَبْت الروم} وقرأا {سيُغْلبون}.وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون: أن هذه قراءة أهل الشام؛ وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه، والحديث يدل على أن القراءة {غُلبْت} بضم الغين، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الروم غلبتها فارس، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك، لأن الروم أهل كتاب، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان، ثم حُرّم الرهان بعدُ ونُسخ بتحريم القمار.قال ابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على {سيغلبون} أنه بفتح الياء، يراد به الروم.ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضًا بضم الياء في {سيغلبون} وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به.قال أبو جعفر النحاس: ومن قرأ {سيُغلبون} فالمعنى عنده: وفارس من بعد غلبهم، أي من بعد أن غَلَبوا، سيُغلبون.وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذيّ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرّضوان؛ قاله عكرمة وقتادة.قال ابن عطية: وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين.وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمّهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان؛ كما تقدّم بيانه في الحديث.قال النحاس: وقول آخر وهو أولى أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى؛ إذ كان فيه دليل على النبوّة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه.قال ابن عطية: ويشبه أن يعلّل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدوّ الأصغر لأنه أيسر مئونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه؛ فتأمل هذا المعنى، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجّاه من ظهور دينه وشَرْع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه.وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبيَّ عليه السلام يوم بدر، حكاه القُشَيْريّ.قلت؛ ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك، فسروا بظهورهم على عدوّهم وبظهور الروم أيضًا وبإنجاز وعد الله.وقرأ أبو حَيْوَة الشاميّ ومحمد بن السَّمَيْقَع {من بعد غَلْبهم} بسكون اللام، وهما لغتان؛ مثل الظَّعْن والظَّعَن.وزعم الفرّاء أن الأصل من بعد غلبتهم فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل: {وَإقَام الصَّلاَة} وأصله وإقامة الصلاة.قال النحاس: وهذا غلط لا يُخيل على كثير من أهل النحو؛ لأن {إقام الصلاة} مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله، فجعلت التاء عوضًا من المحذوف، وغلب ليس بمعتل ولا حذف منه شيء.وقد حكى الأصمعيّ: طَرَدَ طَرَدًا، وجَلَبَ جَلَبًا، وحَلَبَ حَلَبًا، وغَلَبَ غَلَبًا، فأيّ حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال في أَكَلَ أكْلا وما أشبهه: حذف منه؟.{في بضْع سنينَ} حذفت الهاء من {بضع} فرقًا بين المذكر والمؤنث، وقد مضى الكلام فيه في يوسف، وفتحت النون من {سنينَ} لأنه جمع مسلم.ومن العرب من يقول {في بضع سنين} كما يقول في {غسلين}.وجاز أن يُجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون؛ لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضًا من النقص الذي في واحده؛ لأن أصل سنة سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه خارج عن قياسه ونمطه؛ هذا قول البصريين.ويلزم الفرّاء أن يضمها لأنه يقول: الضمة دليل على الواو وقد حذف من سنة واو في أحد القولين، ولا يضمها أحد علمن. اهـ.قوله تعالى: {للَّه الأمر من قَبْلُ وَمن بَعْدُ} أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته فقال: {لله الأمر} أي إنفاذ الأحكام.{منْ قَبْلُ وَمنْ بَعْدُ} أي من قبل هذه الغلبة ومن بعدها.وقيل: من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء.و{من قبلُ ومن بعدُ} ظرفان بنيا على الضم؛ لأنهما تعرّفا بحذف ما أضيفا إليهما وصارا متضمنين ما حذف فخالفا تعريف الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبنيا، وخُصّا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نُكّر وأضيف زال بناؤه، وكذلك هما فَضُمّا.ويقال: {من قبلٍ ومن بعدٍ}.وحكى الكسائي عن بعض بني أسد {للَّه الأَمْرُ منْ قَبْلٍ وَمنْ بَعْدُ} الأوّل مخفوض منوّن، والثاني مضموم بلا تنوين.وحكى الفرّاء {من قبل ومن بعد} مخفوضين بغير تنوين.وأنكره النحاس وردّه.وقال الفرّاء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بيّن، منها أنه زعم أنه يجوز {من قبل ومن بعد} وإنما يجوز {من قبلٍ ومن بعدٍ} على أنهما نكرتان.قال الزجاج: المعنى من متقدّم ومن متأخر.{وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله} تقدم ذكره.{يَنصُرُ مَن يَشَاءُ} يعني من أوليائه؛ لأن نصره مختصّ بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصره، وإنما هو ابتلاء وقد يسمّى ظَفَرا.{وَهُوَ العزيز} في نقمته {الرحيم} لأهل طاعته.قوله تعالى: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلفُ الله وَعْدَهُ} لأن كلامه صدق.{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} وهم الكفار وهم أكثر.وقيل: المراد مشركو مكة.وانتصب {وَعْدَ اللَّه} على المصدر؛ أي وعد ذلك وعدًا.ثم بيّن تعالى مقدار ما يعلمون فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الحياة الدنيا} يعني أمر معايشهم ودنياهم: متى يزرعون ومتى يحصدون، وكيف يغرسون وكيف يبنون؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة.وقال الضحاك: هو بنيان قصورها، وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها؛ والمعنى واحد.وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا؛ قاله سعيد بن جبير.وقيل: الظاهر والباطن؛ كما قال في موضع آخر {أَم بظَاهرٍ مّنَ القول} [الرعد: 33].قلت: وقول ابن عباس أشبه بظاهر الحياة الدنيا، حتى لقد قال الحسن: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي.وقال أبو العباس المبرّد: قسم كسرى أيامه فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج.قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا.{وَهُمْ عَن الآخرة} أي عن العلم بها والعمل لها {هُمْ غَافلُونَ} قال بعضهم: . اهـ.
|